Site icon سكوبس الفني

“عيد الأضحى” يختزل في جوهره معاني التضحية والتراحم والتكافل

بقلم د : خالد السلامي
العيد بلا أحضان – هل غيّر السفر ملامح فرحتنا؟

مع اقتراب موعد عيد الأضحى، اعتادت مشاهد المطارات في دولة الإمارات أن تعجّ بالعائلات الحاملة حقائب السفر، تغادر قبل العيد بيوم أو يومين لقضاء الإجازة مع أسرتها الصغيرة خارج البلاد. ففي السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة اجتماعية جديدة في المجتمع الإماراتي تتمثل في سفر العديد من الأسر إلى الخارج لقضاء عطلة عيد الأضحى مع الأسرة الصغيرة بعيدًا عن الوطن. فبعد أن كان عيد الأضحى يُعتبر مناسبة للتجمعات العائلية الموسعة وصلة الرحم، أصبح البعض يستغل إجازة العيد كفرصة للسفر والترفيه. وتحديدًا قبل موعد العيد بيوم أو يومين، تشهد المطارات حركة نشطة تعكس تزايد أعداد العائلات المغادرة لقضاء العيد في وجهات خارجية. ويثير هذا التحول اهتمام المراقبين لما له من تأثيرات على تقاليد العيد وروابط المجتمع.

هذه الظاهرة مرتبطة بتغير أنماط الحياة وتطلعات الأسر الشابة في الإمارات. فالكثير من العائلات باتت توازن بين الحفاظ على طقوس العيد التقليدية من جهة، ورغبتها في الاستفادة من عطلة العيد للسفر والاستجمام من جهة أخرى. ومع ازدياد الرفاهية وانفتاح المجتمع على العالم، أصبح السفر خلال العيد أمرًا شائعًا وخيارًا مفضلًا لدى فئات معينة. في الأقسام التالية نستعرض حجم انتشار هذه الظاهرة في عيد الأضحى بالأرقام، ثم نتناول دوافعها المختلفة، وتأثيرها على الطقوس الأسرية والدينية، إضافة إلى الآراء المتباينة حولها والفئات الأكثر إقبالًا عليها، وأخيرًا بعض المقترحات للتوفيق بين متعة السفر وقيم العيد.

انتشار الظاهرة خلال عيد الأضحى بالأرقام

تشير الإحصاءات الرسمية ووسائل الإعلام المحلية إلى أن عطلة عيد الأضحى باتت واحدة من أكثر مواسم السفر ازدحامًا في دولة الإمارات. فعلى سبيل المثال، كشفت الإدارة العامة للإقامة وشؤون الأجانب في دبي أن إجمالي عدد المسافرين عبر المنافذ الجوية في الإمارة خلال إجازة عيد الأضحى لعام 2024 (خلال الفترة من 15 إلى 18 يونيو 2024) بلغ أكثر من 562 ألف مسافر. وهذا الرقم الضخم خلال بضعة أيام يعكس بوضوح حجم الإقبال على السفر في هذا الموسم. كما سجل مطار أبوظبي الدولي في أحد الأعوام مرور حوالي 414 ألف مسافر خلال فترة عيد الأضحى ضمن إحصائية شملت شهري يوليو وأغسطس، ما يؤكد أن الظاهرة تشمل مختلف إمارات الدولة ولا تقتصر على دبي وحدها.

ولا يقتصر الأمر على الأرقام المسجلة، بل إن التوقعات والاستعدادات المسبقة تشير أيضًا إلى طفرة في حركة السفر خلال عيد الأضحى. فقد توقع مطار دبي الدولي استقبال أكثر من 3.7 مليون مسافر خلال فترة إجازة عيد الأضحى والمدارس في يونيو 2024، بمعدل حركة يومي يصل إلى نحو 264 ألف مسافر، وتوقع أن يصل العدد في أكثر الأيام ازدحامًا (22 يونيو) إلى قرابة 287 ألف مسافر في يوم واحد. هذه المؤشرات دفعت المطار وشركات الطيران إلى إطلاق حملات توعية للمسافرين لاتخاذ إجراءات مبكرة لتفادي الزحام وضمان سلاسة التنقل.

جدير بالذكر أن وزارة الخارجية والتعاون الدولي في الإمارات أيضًا رصدت جانبًا من هذه الظاهرة من خلال خدمة المواطنين في الخارج أثناء العيد. فقد أعلنت الوزارة أنها تلقت 3600 مكالمة وتعاملت مع 91 بلاغًا طارئًا خلال إجازة عيد الأضحى 2023 عبر نظام الطوارئ المخصص لمواطني الدولة بالخارج. وتعكس هذه الأرقام عدد المواطنين الإماراتيين الذين كانوا مسافرين خارج البلاد أثناء عطلة العيد واحتاجوا إلى الدعم أو المساعدة، مما يدل على الانتشار الواسع لسفر الأسر خلال العيد.

دوافع اجتماعية ونفسية واقتصادية للسفر في العيد

تتنوع الأسباب التي تدفع العائلات الإماراتية إلى السفر قبل عيد الأضحى لقضاء الإجازة في الخارج، وتتداخل فيها العوامل الاجتماعية والنفسية والاقتصادية بشكل معقد:

مجمل هذه الدوافع يفسّر لماذا أصبحت شريحة متزايدة من الأسر الإماراتية تميل إلى حزم الحقائب والتوجه إلى المطار قبيل يوم العيد. وبالطبع يختلف الوزن النسبي لكل دافع من عائلة لأخرى؛ فهناك من يغلب لديهم عامل المتعة والاستكشاف، وآخرون يعتبرون الأمر ضرورة للاسترخاء بعد عام من العمل، وغيرهم قد يكون السفر بالنسبة لهم عادة سنوية بغض النظر عن توقيت العيد.

تأثير السفر على شعائر العيد وتقاليده

يحمل عيد الأضحى في الثقافة الإسلامية والعربية طقوسًا وشعائر دينية واجتماعية عريقة، أبرزها شعيرة الأضحية وصلة الرحم وتبادل الزيارات العائلية. ظهور عادة السفر في إجازة العيد أثّر بشكل ملموس على ممارسة بعض هذه الطقوس بالشكل التقليدي المعتاد، ومن أهم التأثيرات في هذا السياق:

باختصار، السفر خلال عيد الأضحى يعني غالبًا استبدال نمط احتفال جماعي تشاركي بنمط احتفال خاص محدود بأفراد الأسرة الصغيرة وفي ثقافة مختلفة. وهذا الاستبدال له أثره على ممارسة الشعائر والحفاظ على العادات المرتبطة بالعيد، سواء الدينية منها أو الاجتماعية. ورغم حرص بعض الأسر المسافرة على تعويض ما فاتها – كأن تقوم بالتصدق بثمن الأضحية، أو تنظيم لقاء عائلي قبل السفر أو بعد العودة – إلا أن الواقع يشير إلى تراجع ملموس في حضور تلك الأسر ضمن مشهد العيد المحلي بكل ما يحمله من معاني التواصل والتكافل.

الآثار السلبية على التواصل الأسري وقيم العيد

يترتب على ظاهرة سفر العائلات قبل عيد الأضحى جملة من الآثار الاجتماعية السلبية المحتملة، التي تثير قلق المهتمين بتماسك النسيج الأسري والمحافظة على القيم التراثية للمجتمع الإماراتي. من أبرز هذه الآثار:

بطبيعة الحال، ليست كل أسرة مسافرة تقع بالضرورة في هذه السلبيات، فكثير من الأسر تحاول الموازنة كما سنرى لاحقًا. إنما تسليط الضوء على هذه الآثار مهم للتنبيه إلى ثمن اجتماعي وثقافي قد ندفعه إن أصبحت ظاهرة السفر في عيد الأضحى هي القاعدة السائدة وليست الاستثناء.

مواقف وآراء المجتمع تجاه الظاهرة

أثارت هذه الظاهرة نقاشات واسعة في المجتمع، وتباينت الآراء بين مؤيدين يرون الأمر حرية شخصية ومتعة مشروعة، ومعارضين يخشون تبعاتها على تماسك الأسرة والمجتمع. نعرض فيما يلي خلاصة بعض المواقف غير المنسوبة لأشخاص محددين ولكنها شائعة ومتداولة:

بطبيعة الحال، هناك أصوات معتدلة تدعو إلى حلول وسط (سنذكرها في قسم المقترحات) وترى وجاهة في كلا الرأيين. لكن هذا العرض يُبيّن مدى الانقسام في النظرة إلى الظاهرة: بين من يركز على إيجابيات التجربة الفردية، ومن يهتم بتبعاتها الاجتماعية الطويلة الأمد. والحوار حول هذا الموضوع صحي ومطلوب للوصول إلى فهم أعمق لكيفية التوفيق بين التطور الاجتماعي والحفاظ على القيم.

الفئات الأكثر إقبالًا على السفر في العيد

عند الحديث عن ازدياد سفر العائلات الإماراتية قبل عيد الأضحى، لا بد من الإشارة إلى الفئات الاجتماعية التي تظهر فيها هذه الظاهرة بشكل أكبر. فمن خلال الملاحظات والبيانات المتاحة يمكن تمييز بعض السمات العامة للأسر الأكثر ميلًا للسفر في عطلة العيد:

بطبيعة الحال، تبقى هذه ملامح عامة وليست قواعد صارمة. فقد نجد أسرًا شابة ميسورة تفضّل البقاء للاحتفال مع الجد والجدة، بالمقابل ربما هناك أسر كبيرة العدد لكنها تخطط لسفر جماعي خلال العيد. ومع ذلك، تساعدنا هذه المؤشرات في فهم من يقود هذه الظاهرة: جيل جديد نسبيًا يتمتع بإمكانات مادية جيدة ونظرة مختلفة للأعياد. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن إحصاءات شركات السياحة تظهر أن حوالي 60% من المسافرين خلال عطلات العيد يسافرون برفقة عائلاتهم، مقابل نسبة صغيرة تفضل السفر الفردي أو مع الأصدقاء، ما يعني أن وحدة الأسرة النووية هي قلب هذه الظاهرة ومحركها الأساسي.

حلول ومقترحات للتوفيق بين السفر وقيم العيد

أمام تنامي ظاهرة سفر العائلات في عيد الأضحى وما تحمله من إيجابيات وسلبيات، يبرز تساؤل مهم: كيف يمكن التوفيق بين رغبة الأسر في السفر والاستمتاع بالإجازة من جهة، وبين الحفاظ على قيم العيد وتقاليده من جهة أخرى؟ فيما يلي بعض الحلول والمقترحات التي طُرحت في هذا السياق بشكل بناء:

بالطبع، تطبيق هذه المقترحات طوعي ويعتمد على قناعة الأسر وأولوياتها. الهدف منها هو إيجاد نقطة وسط تضمن ألا نخسر روح العيد في زحام صالات السفر، وأن يبقى العيد مناسبة تحمل البهجة والألفة معًا. فالسفر ممتع ومثري ولا شك، لكن المتعة الكبرى للعيد تكتمل بمشاركة الفرحة مع الأحبة وصون القيم والعادات التي ورثناها جيلاً بعد جيل.

 

في الختام، تظهر ظاهرة سفر العائلات الإماراتية إلى الخارج قبل عيد الأضحى كصورة من صور التغير الاجتماعي في العصر الحديث، حيث تسعى الأسر إلى تحقيق التوازن بين متطلبات الحياة العصرية وواجباتها الاجتماعية. فلا شك أن السفر في العيد يحمل جانبًا إيجابيًا يتمثل في الترفيه وتقوية الروابط الأسرية الصغيرة عبر التجارب المشتركة، وكذلك الاستفادة من عطلة رسمية للاسترخاء واكتشاف أماكن جديدة. وفي الوقت نفسه، علينا ألا نغفل عن الجانب الآخر المتمثل في تآكل بعض الممارسات التقليدية وضعف التواصل العائلي الأوسع إذا ما استسلمنا تمامًا لتيار السفر كل عيد.

إن عيد الأضحى في جوهره مناسبة دينية واجتماعية فريدة تختزل معاني التضحية والتراحم والتكافل. ومن مسؤوليتنا كمجتمع أن نضمن بقاء هذه المعاني حيّة في نفوس الأجيال القادمة. التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد مساحة لكل من التطور والتقاليد: أن نكون قادرين على مواكبة أسلوب الحياة الحديث، دون أن نفرط في جذورنا وهويتنا الثقافية. وفي هذا السياق، يبدو الحل الأمثل هو الاعتدال؛ بحيث تُلبى رغبة السفر والاستجمام دون أن تصبح على حساب صلة الرحم وصلة الإنسان بمحيطه الاجتماعي.

في المحصلة، يظل القرار لكل أسرة وفق ظروفها وما تراه أنسب لها. لكن الوعي بتبعات الظاهرة ونقاشها بشكل صريح – كما فعلنا في هذا المقال – هو خطوة مهمة نحو تحقيق التوازن المنشود. فإذا استطعنا جعل عطلة العيد خارج البلاد تجربة لا تلغي فرحة العيد في الديار، نكون قد نجحنا في التوفيق بين عالمين، وجمعنا أفضل ما فيهما لأجل مستقبل أكثر تناغمًا للأسرة والمجتمع الإماراتي ككل.

Exit mobile version